لعب السياسي لعبته ونفخ الإعلامي بوقه في 'عدوّ الشعب'، ولا نتوقع منهما غير التماهي مع أدوارهما ومصالحهما.. ربما هناك مسرحيات لا يضجر منها العرب أبداً، ولا تشيخ، تلك التي تفضح الصلات النَّفعية والاستغلال وتضليل الجماهير، كونها الصفة الغالبة على مجتمعاتنا من بين صفات أخرى سلبية. وأخال كل مواطن عربي بوسعه خلق نسخته الخاصة منها اعتماداً فقط على ذكرياته الشخصية. ولكن حذار، ليس كل صادق يُكرَّم على عمله، هل بوسعنا أن نتذكر إدوارد سنودن فاضح المخابرات الأميركية؟
تكنيكات المسرح المعاصر لم تعد تشبه تكنيكات تينسي ويليامز |
حين كتب أبو المسرح الواقعي الحديث الكاتب النرويجي هنريك إبسن مسرحيته الراديكالية وقتذاك -راديكالية لدرجة عدم تصور مدى توغل الفساد وتعقد وسائله في مجتمع صغير إبان القرن التاسع عشر- “عدوّ الشعب” عام 1882، ما دار بباله أنها ستظل وثيقة الصلة بالحياة السياسية ومعضلة التغير المناخي في عام 2014.
أين الخلل
عرضت فرقة شاوبونا البرلينية “عدوّ الشعب” على مسرح باربيكان اللندني بعد تجولها في ألمانيا ومقاطعة كيبيك ونيويورك. بالرغم من موهبة الفرقة التمثيلية وموسيقى بديعة مهرت في عزفها، أتى الحوار ذاته باهتاً أجوف بعض الشيء، لا لخلل أصيل في ترجمة الألمانية ماريا ميليزافيجيفك -وإن تناهت إليّ بعض الجمل قلقةً، وكان من الأوفق ولا شك إنتاج نسخة إنكليزية خالصة بدلاً من ترجمة النص عن الألمانية، فلا حقوق فكرية للمسرحية- ولكن لأن مؤلف النسخة الإنكليزية حاول البوح بكل شيء وأي شيء.
حاولتُ الإمساك بخيوط مسرحية تَسَع عدة مسرحيات خلال وقت وجيز، أقحمت النسخة الألمانية كل ما يمكن تخمينه عن نيات إبسن الفنية، بل وخمنت نيات غيرها! فظهر طرحها الليبرالي مغروراً فجاً به قدر من الادعاء وتوالت المسرحية كما التخمة الفكرية مع أن مسرح إبسن يتحلى في أغلبه بإيجاز لا يعدم الشعرية.
ولكن ما علينا! عله في النهاية تراخ نابع من ذاتي المعتادة على الوجبات السريعة والرسائل النصية! ظللتُ ألهث بين المشهد والآخر، وجميعها متخمة بالأفكار المتحذلقة والنظريات عن إيثار المنفعة الشخصية على المنفعة العامة وتضخم نفوذ قادة الأحزاب والهيمنة على منابع الدخل. وكما هو خليق بإبسن لا يفوته أن يلفت وعينا إلى آيات الترف والبذخ التي يدّعي ضررها باقتصاديات البلاد وتهديدها للطبقات الدنيا.
تألق الفساد
يكتشف البطل، العالم توماس ستوكمان -ويقوم بدوره الممثل الموهوب كريستوف جاوندا- تلوث الينابيع المعدنية ببلدته النرويجية، منتجعات يأتيها السياح والمرضى وتوفر أكبر نصيب من دخل البلدية، من جراء ممارسات البعض، ومنهم حموه المذنب غير التائب أكبر ملوثي المياه. ومع اعتراض أخيه -عمدة البلدة بالمصادفة- يفضح ستوكمان الوضع على صفحات الجريدة المحلية، ولكن شخصيات إعلامية من أمثال رئيس تحرير جريدة “رسول الشعب” المراوغ الذي تُشكل جريدته الرأي العام وسياسيين ذرائعيين -السياسي الطبيعي المعاصر- لا يدخّرون جهداً لدفن ورقته البحثية. إنه الفساد في أشد لحظاته تألقاً.
لذا يعقد العالم العزم على الاتجاه فوراً إلى الشعب، وما تلا كان بوق إنذار مدينياً لكل واشٍ كي يعود إلى كتمانه ويسد فمه قبل فوات الأوان! يتوصل المواطنون -العاديون الأخيار- إلى أن نتائجه يسهل دحضها، “هل يستحق الأمر المخاطرة باقتصاد البلدة، قيمة المساكن، المواصلات العامة، المدارس العامة؟”.
ومثلما اِنتوى إبسن أن يُظهره، تبدّى “عدوّ الشعب” راضياً عن نفسه رضا الشهداء غير أنه لم يقف مكتوف اليدين بعد أن استفحل به الاضطهاد. لوَّح بيديه ضارباً مهتاجاً، انفجر وهو يستهجن تركيبة المجتمع الحديث ويندد بطغيان الأغلبية وسياسة الإجماع قائلاً: “إن أشد أعداء الحقيقة هو الأغلبية الليبرالية اللعينة”. ألا يسميها الغرب “الديمقراطية” في هذه الحالة؟ صوب أيضاً سهامه إلى الرأسمالية -ولم تكن قد تبلورت أثناء كتابة المسرحية كما نعرفها الآن- فصرخ: “الاقتصاد ليس في أزمة، الاقتصاد هو الأزمة”. جملة سرقها المؤلف من بيان أناركي فرنسي يحمل عنوان “العصيان المسلح القادم”.
مشهدان من "عدو الشعب " مسرحية لاتزال تثير المشاهدين |
المسرح كله
ما عادت تكنيكات المسرح المعاصر تشبه تكنيكات تينيسي ويليامز أو حتى بيكيت، تكاد لا تتقاطع معها في شيء. فقد تجسدت أروع المشاهد في موقع محاكمة الواشي، المسرح ذاته، لا خشبته، وإنما محيطه. حوَّل مخرج العرض الألماني توماس أوسترميير المسرح بأكمله إلى دار البلدية وحث الجمهور على المشاركة في العرض: خصوم العالِم يرفعون أياديهم ويبدأ العد، مؤيدو العالِم يرفعون أياديهم ويتواصل العد. إنهم ممثلون الآن، يتفاعلون كيفما يحلو لهم، سلباً أو إيجاباً.
تخيّل إذن طاقماً من الممثلين يتدربون بلا نهاية على مواجهة ردود أفعال متنافرة قد تبدر من جمهور محافظ ببذل رسمية يعزف عن المشاركة أو جمهور مشاكس قد ينقلب مجنوناً بالهاتف الشكسبيري الغوغائي، “اقتله، اقتله”! وجدتُ لحظات من التفاعل قد تعيد تعريف فكرة المسرح المعاصر، ولحظات محرجة انزلقت إلى الكليشيهات الكوميدية غير المتعمدة على الإطلاق. ولكن على العكس من جمهور إبسن القديم الذي أدار ظهره للشرف، لم يجد جمهور اليوم مناصاً من دعم العالِم المظلوم، وهل من اختيار آخر؟ فالجمهور يدرك الحبكة والأحكام الأخلاقية المسدَّدة إلى موقف المعادي! فكان من المحتوم دسّ، وفقاً لما أعلنه المخرج لوسائل الإعلام، بعض المهاجمين بين الجمهور حتى يلتهب الشرر وتستقيم الحبكة، وإلا سينتصر الخير! فرأيتُ المشاهِد ممارس المثالية أو مدعيها يرمق الآخر الشرير بعيون حمراء لا تصدق ولسان حال يقول، “أنت غبي؟ ألم تقرأ المسرحية من قبل؟”.
مفاجآت الجمهور
وهكذا جرى كل عرض متفرداً بذاته مع اختلاف الجمهور يومياً، فلا سبيل إلى توقع مواقفهم التي تقبلها الممثلون بصدر رحب، أو على الأقل هكذا بدوا! انسجم التكنيك ذاته بسلاسة مع البنية المسرحية، إذ لاح كل المسرحيين القدامى غاية في العجز حين استدعينا مسرحيات حاول المخرج فيها تكديس عشرة من الناس بالكاد على خشبة المسرح وتصويرهم باعتبارهم “حشداً”! ليس خبراً جديداً أن يكون فن المسرح التقليدي فناً محدوداً جغرافياً، وبالتالي محدود الأدوات.
الرغبة دوما حقيقية وصادقة في التغطية على الحقيقة والصدق |
إن ما لا نرغب في الاعتراف به لأنفسنا هو أن عالِمنا حين يطرق الباب في الحياة الحقيقية طالباً الإفصاح عن الحقيقة، لا أحد يجيبه. الرغبة دوماً حقيقية وصادقة في التغطية على الحقيقة والصدق. لا مجال لإزاحة التراب أو قلقلة الثابت، فهناك دائماً خسائر.
لقد لعب السياسي لعبته ونفخ الإعلامي بوقه في “عدوّ الشعب”، ولا نتوقع منهما غير التماهي مع أدوارهما ومصالحهما، ولكن الطين يزداد ابتلالاً حين نعي أن لا صلة ملازمة للتفسخ بالحكم السياسي بقدر ما هو وثيق الصلة بنا نحن. فنحن الداعم والنصير الأول له. إبسن يجاهر بصراحة في وجوهنا، لن يضحي المجتمع بمصدر رزقه دفاعاً عن الحقيقة.
هالة صلاح الدين
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال