يدمع القلب، ويرجع البصر حسيرا، حينما تحدق العيون في خارطة الوطن العربي الممتدة من الماء إلى الماء، فلا ترى سوى بقع من الدم يتمشى فيها الموت الهوينى ويسرح فيه الخراب ويمرح، وتقيم فيها الدموع والآهات صروحا مشيدة من أنات الثكالى وصراخ الموجوعين ودماء الأبرياء الذين لا يعرف القاتل منهم لم قتل ولا يعرف المقتول لماذا قتل، ولا تعرف المدن التي كانت عامرة تنبض بالحياة، لماذا استحالت فجأة إلى خراب يصيح فيه البوم وتنعق فيه غربان الموت الأسود…
ففي أقصى المغرب العربي، وتحديدا في ليبيا، كان الجميع يمني نفسه أن انتهاء عصر القذافي ونجاح الثورة الليبية سيكون بداية لعهد جديد من الديمقراطية والنمو والتسامح بين الليبيين في ظل دولة ليبية تحتفي بالإنسان، وترمي عقد التاريخ وتشجناته ورائها، إلا أن العكس هو الذي حصل…
وبغض النظر عن المتسبب وعن الفاعلين داخليا وخارجيا، إلا أن الواقع المر يقول إن ليبيا دخلت في دوامة من الفوضى والصراع العبثي المجنون، وتفرق أبنائها شيعا وقبائل، وأصبح الحكم هناك مثل صخرة سيزيف كل يدحرجها لتوشك أن تصل إلى القمة تم تعود القهقرى في رحلة عبثية لا تلوح لها نهاية، ويدفع الشعب الليبي الطيب ثمنها من أمنه واستقراره واقتصاده وحريته…
ولإن كانت تونس استطاعت بفضل الله، وبسبب جهود أبنائها المخلصين أن تتجنب السقوط الكبير، إلا أن حالها لما يستقر بعد، فلا تزال قوى الإرهاب والشر تتربص بها الدوائر، وتسعى لأن تجرفها نحو متاهات الدم والخراب..
ومن المضحكات المبكيات، أن حال المغرب العربي، رغم الصعوبات، يبدو ممتازا إذا ما قورن بما عليه الأمر في المشرق العربي، حيث يبدو وكأن الأمر أشبه بحالة انتحار جماعي، أو لعنة كاسحة، لا تريد أن توفر بلدا أو تترك أحدا، لدرجة أن الأزمات و “البلاوي” أصبحت تتناسل كطلع الشياطين، ففي كل يوم جديد، يصحو المرء ليكتشف أن مأساة أخرى بدأت تتشكل، وأن أزمة جديدة أطلت برأسها..
ولعل المأساة الكبرى، وأم المشاكل هي المأساة السورية المستمرة منذ أكثر من ثلاثة أعوام، والتي تتضاعف كارثيتها يوما بعد يوم، وتتطاير شظاياها المجنونة في كل اتجاه لتصيب البلدان المجاورة، بل والبلدان البعيدة جغرافيا من سوريا، فقد استحالت ثورة السوريين والتي انطلقت في البداية توقا للحرية والعدالة إلى مأساة حقيقية، دفع البلد ثمنها دمار هائلا، وأصبح السوريون وقودا لأوراها المشتعل قتلا وتشريدا ونفيا وتنكيلا..
ولم يكن أكثر المتشائمين شططا، يتوقع أن تكون حصيلة ما يجري في سوريا بعد هذه السنوات العجاف، أكثر من 200 ألف قتيل وملايين المهجرين في الداخل والمنفيين قسرا في الخارج، بالإضافة إلى تدمير مئات المدن وتجريف الاقتصاد السوري الذي رجع إلى الوراء عشرات السنين، ولعل الأدهى والأمر هو أن الثورة السورية ونتيجة لعسف ديكتاتورية النظام وتقاعس المجتمع الدولي عن نصرة السوريين، أنتجت مجموعات متطرفة مثل “داعش” لا تفهم سوى لغة الدم ولا تريد إلا التخريب والتدمير والقتل..
ولم تتوقف المأساة السورية عند حدود بلادها، وإنما أدخلت العراق المنهك أصلا والمثقل بالخيبات والأزمات هو الآخر، في أتونها المشتعل، فقد انطلقت قطعان”داعش” من عمقها السوري، لتدك المدن العراقية واحدة تلو الأخرى، ولتوقظ فتنة مذهبية لا تحتاج إلى كثير من الجهد لإشعالها، فالكبريت في جيب العراقيين كثير وتاريخهم مع الحرائق طويل وممتد..
ولا يحتاج المرء إلى كثير جهد، ليلاحظ الآثار السلبية للمأساة السورية على لبنان، فبالإضافة إلى الآثار الاقتصادية والسياسية الخطيرة، فإن الآثار الوجودية هي الأخطر، فمن الصعب تصور كيف سيدير اللبنانييون خلافاتهم حول الملف السوري، خاصة وأن بعض القوى الأساسية هناك، متورطة في الأزمة السورية من قمة الرأس إلى أخمص القدمين، ولذا فإن الكل يضع يديه على قلبه خوفا مما يحمله قادم الأيام للبنان، هذال البلد القائم على أساس توازانات هشة قابلة للتداعي في أي لحظة..
وتتواصل فصول المأساة، في قسمها الأخير الذي يأتي من اليمن “الذي كان سعيدا”، حيث أدت سيطرة الحوثيين على العاصمة صنعاء، والسقوط المدوي لأجهزة الأمن هناك إلى حالة صدمة لدى اليمنيين، وهو أمر يخشى أن يتحول إلى فتيل لإشعال حرب أهلية جديدة في بلد ينام كل بيت فيه على صناديق مكدسة من السلاح والذخائر…
إنها خارطة الخراب لوطن عربي دخل في حالة انتحار جماعي مجنون كأنما يقول بلسان الحال “أنا أنتحر، إذن أنا موجود”.
محمد سعدن ولد الطالب
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال