أخيراً، استجابت أميركا. قررت أن «تنقذ» العرب من «داعش». حشدت تحالفاً دولياً، منتقى من «الحلفاء» العرب والأجانب، وبالتعاون مع دول فاعلة من خارج سرب التحالف، إيران نموذجاً.
أخيراً، تم الاعتراف العربي والإقليمي التام، بالعجز والفشل. عبر إعلان حالة ذعر عربية، من جحافل «الجهاديين» الذين جاؤوا من الرحم العربي. طلب النجدة الأول جاء من نوري المالكي، المنتصر بصناديق الاقتراع الشيعية، والمهزوم أمام سنة المحافظات وبرابرة «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، والمنبوذ من معاونيه، كرداً وسنة وشيعة. اتصل المالكي ليلاً برأس «الأمبريالية» الغربية مدمرة العراق سابقاً، ليطلب من أوباما التدخل لوقف زحف «داعش» على بغداد، وما بعدها، وما بعد بعد...
إنما، أميركا ليست للإيجار. كانت إدارة أوباما قد قررت الانسحاب من العراق، في الزمان المحدد، وتعمل على الانسحاب من أفغانستان، وتنأى بقواتها العسكرية الميدانية عن بؤر الصراع في المشرق. وكلاؤها خير منها، قابلون للاستئجار، مهما بلغ الثمن، ولو أدى إلى خراب البصرة في العراق، وخراب بلاد الشام.
وأميركا، ليست منظمة إنسانية. هي الأكثر جشعاً والأقسى في ممارسة الهيمنة والابتزاز والاحتلال. هي الشبكة العنكبوتية العالمية المسيطرة، حتى في مناطق الظلال. غير أنها كانت قد انسحبت من التدخل المباشر مفضلة الانسحاب من الحروب وعدم الدخول في حرب جديدة إلى أن وردت طلبات الاستغاثة العاجلة. فبعد المالكي، هتف البرزاني من كردستان، استنجد الملك السعودي بذعر غير مسبوق، وحرّض أوباما على مكافحة إرهاب عابر للقارات سيصل قريباً جداً إلى أوروبا. وفي ما بعد إلى عقر دار الأميركية بالذات.
«لا أحد يقوى على «داعش» غير أميركا»، فيا أميركا أغيثينا. استجابت بتأنٍ، وبطريقة موضعية. رمت طائراتها مئات الأطنان من الصواريخ والمتفجرات على خطوط «داعش» في العراق وعلى مواقع احتشادها. قامت بعمليات إنقاذ متأخرة جداً، بعد المجازر التي ارتكبت بحق المسيحيين والإيزيديين ومن وجدته «داعش» في طريقها من السنة والشيعة، الخوارج على نهجها.
استجابت أميركا على مهل. هي تعرف «داعش» جيداً، غضّت النظر عنه مراراً. الغرب يعرف «داعش» و«النصرة» أيضا، ويعرف من يمولهما ومن يسلحهما ومن يدعمهما ومن يؤمن عبور المقاتلين من أنحاء العالم للانتظام في صفوفهما. الكل شاهد حجم الجرائم والإبادات التي ارتكبتها «داعش» و«النصرة». فهما سليلا «القاعدة» والمحتضنان من أنظمة خليجية متحالفة مع أميركا والغرب.
هؤلاء الذين كانوا شركاء في تربية الأفاعي، اكتشفوا أنها تلدغ من احتضن بيضها في المهد.
هذا هو نصف الصورة. «داعش» و«النصرة» منا وبسببنا. أنظمة العار والاستبداد والطغيان والاستئثار والقمع، وأنظمة الطوائف والمذاهب، أنظمة العائلات الحزبية والجيوش المطيعة، لم تترك لغير الإرهاب أن يقيم عندها، لأن الإرهاب أقوى منها، وأكثر بربرية منها.
أميركا، العدو الدائم، كما افترضنا، ستعود إلى المنطقة بطلب رسمي موقع من دول عربية وإقليمية، وبطلب من الجامعة العربية، بتعاون سري قليلاً، مع إيران. ويحاول النظام السوري، الذي توعدته أميركا منذ عام، أن يُقْبَل في هذا التحالف، ولو بطريقة غير معلنة، لأنه هو المعني أولاً بمحاربة «داعش» و«النصرة»، بكلفة باهظة لا تحتمل، وعدم قدرة على الحسم، واحتمال المزيد من الخسائر، كان آخرها، فقدان الرقة، وتوقع فقدان الحسكة ودير الزور وما تبقى من بلاد الشام النائية عن العاصمة المحاصرة.
ما تريده هذه الأنظمة من أميركا هو أن تحارب عنها، بعدما فشلت في وقف تمدد «داعش» فكيف بإلحاق الهزيمة بها. أميركا استجابت فقط لنداءات الاستغاثة، ولكنها قادمة لأكثر من ذلك، وبشروط ما بعد المعارك.
الملاحظ أن استجابة أميركا حصلت عراقياً، بعد «تنحية» المالكي عن تولي رئاسة الحكومة، بضغط أميركي وقبول إيراني وخضوع «مالكي». والمؤكد حتى الآن، أن لا مكان للنظام السوري في هذا التحالف، وفي ما بعده. التسريبات الدمشقية لا يعوّل عليها. وحتى اللحظة، وربما لوقت بعيد، سيكون القتال في أرض العراق وسمائها، وبعض أجواء المناطق البعيدة عن جيش النظام، أي حيث تدعو الحاجة. لعل قرار إنعاش «الجيش السوري الحر» وما يسمى «المعارضة المعتدلة» هو البديل الوارث لـ «داعش» إذا هزمت، ولـ«النصرة» إذا حُجّمت. لن يزاد إلى رصيد النظام غير استمرار الضغط عليه.
والخشية أن تتحقق هواجس «حلفاء النظام في دمشق»، من أن تكون المعارك البعيدة، وسيلة للتسلل إلى المعارك القريبة من قلب النظام. لا حواجز تمنع إعادة تسليح وتدريب المقاتلين المنضوين في صفوف الجماعات المسلحة، وهذه الإمارات المنتشرة بالعشرات في المناطق التي فرّت من سلطة النظام. لا حواجز تمنع «حليف» الضرورة من طرف واحد، من أن يستبدل قوة «داعش»، بقوة حلفاء قطر والسعودية والغرب، إما لتحجيم النظام أو الضغط عليه لتقديم التنازل، والذهاب إلى جنيف 3 للتوقيع على ما تبقى.
عودة أميركا هي عودة للاستعمار بطلب منا: «تعالَ وأنقذنا من أنفسنا. فهذا ما ارتكبناه على مدى قرن من الزمن».
لقد قتلت أنظمة الاستبداد العربي كل جميل ونبيل وقوي فينا. قتلت الأفكار والعقائد والمبادئ. جرفت العقول والثقافة والحضارة. منعت الأحلام الرائعة: أحلام الحرية والعدالة والديموقراطية. منعت الاشتراك بالعمل الفدائي لتحرير فلسطين. سمحت لجيوشها الخاسرة دائما، في كل المعارك، بأن تنتصر علينا. حوّلت البلاد إلى ثكنات عسكرية متجوّلة، وجعلت من المواطن حثالة، يستحق السحق كالحشرات. أنظمة، اهتمت فقط بأن تكون آلهة، وأن يكون شعبها متعبداً لها كالعبيد. أنظمة ارتكبت الكبائر في حروب عبثية، وفي منازلة «الربيع العربي» في الميادين، بقوة السلاح فخنقت الربيع وورثته «داعش». أنظمة منعت الفكر والمفكرين: قتلت الكواكبي ومحمد عبده والطهطاوي وطه حسين وعلي عبد الرازق وفرح انطون وفرنسيس المراش وجبران خليل جبران ونجيب محفوظ وميشيل عفلق وانطون سعاده، وسخرت من محمد عابد الجابري وناصيف نصار وعلي أومليل ومحمد اركون وجورج طرابيشي. أنظمة تفوقت في تعميم الأمية الفكرية، ونشر التكفير، بطريقة أشد ضراوة، عندما اعتبرت المواطن المفكر أو المتحرر، عميلاً، يستحق القصاص. هذه الأنظمة التي اصطدمت بالإسلاميين مراراً، عادت واستنجدت بهم، لأنهم أهل «سلف» فقط. فمنحتهم رعاية وسمحت بانتشارهم، لقاء الصمت على حكمهم والاهتمام بالتبشير والدعاء وتقليد السلف الصالح. أنظمة مثل هذه، فشلت في الحفاظ على شعوبها وعلى دولها وعلى كياناتها، ولم يبق لها إلا بعض جنود وقادة، غير قادرين على وقف زحف «داعش» وأخواتها. شعبها الذي اضطهدته لا ينجدها.
طبيعي أن تعود أميركا لتضع يدها الغليظة على المشرق. ما يشغلها، ليست المعارك الميدانية، فهذه لها من يقتل فيها. أميركا ستمارس القتال وتقتل من الجو، من دون أن تُقْتَل. علينا نحن أن نقاتل ميدانيا، فَنَقْتُل ونُقتل. أما بعد ذلك، فأي مشرق سيولد، ومن سيتولى استيلاده.
جواب أكيد. ولا أي نظام عربي مشرقي سيكون له الحق في «الفيتو»، أو ما دون ذلك. التحالف الدولي بقيادة أميركا، سيعيد رسم هذه المنطقة. ويمكن تصور ما ستؤول إليه، فليس لدى أميركا من مادة للبناء، غير الطوائف والمذاهب والأعراق والأقليات والجيوش، وبها سيعمل على إنشاء كيانات تشبه هذه الجماعات، على أن تكون محميات لقوى النفوذ المشترك في العراق وبلاد الشام.
ليس لدى أميركا الغرب غير هذه السياسة. ففي العراق دستور مكتوب بحبر أميركي وتصديق عراقي. وهو دستور يقسّم العراق الموحد اسماً إلى كيان كردي وآخر شيعي وثالث سني... دستور يكرس التعدد ويطيح الوحدة، ومع ذلك فقد فشلت هذه التجربة، وقادت العراق إلى الهلاك والسقوط تحت أقدام «داعش» والإرهاب.
ولدينا لبنان، صيغة نموذجية للفشل.. فهل يرتكب الغرب مرة أخرى، ما ارتكبه في سايكس ـ بيكو، ولكن بطريقة أكثر فداحة.
لا شيء يمنع ذلك.
يحصل كل ذلك الآن، وسيحصل أسوأ منه في ما بعد، لأن مئة عام من عمر هذه الكيانات، ينذر بأن الكارثة يمكن أن تستعاد. زواج الدين والدولة يجهض الدولة ويدمر الدين. زواج السلطة والطائفية والمذهبية، حرام يوقع الشعب في الفتنة. إقامة سلطة استبدادية، مشروع ينحر الأمة بناسها. الاستعانة بإسلام معتدل على طريقة الاخوان، خطة قاتلة. لعل الانتداب، يصير مطلباً، لأن البديل هو الفوضى مع وقف التنفيذ.
فالمشرق ليس قادراً على حكم نفسه بنفسه.
صدق الماغوط عندما تنبأ من نصف قرن:
«ما من أمة في التاريخ
لها هذه العجيزة الضاحكة
والعيون المليئة بالأجراس»
نعم... ما من أمة.
نصري الصايغ - assafir.com
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال