تُعتبر ليلى أبو زيد من أهم الروائيات في المغرب، حيث كتبت الرواية والقصة القصيرة والرحلة ومارست الترجمة، وساهمت لغتها الشاعرية ونزعة أدبها النقدية في ترشيح نتاجها للترجمة إلى لغات عدة، كما عملت مؤخرا على إصدار كتاب يرصد سيرة للنبي محمد بالعربية والإنكليزية والفرنسية.
- أصدرت مؤخرا سيرة للنبي محمد، بثلاث لغات (العربية والفرنسية والإنكليزية) قد يفهم أن النسختين باللغتين الأجنبيتين موجهتان للأجانب للدفاع عن صورة الرسول بعدما اعتدى على حرمته اليمين المتطرف الأوربي، هل هذا صحيح؟
نعم، جاءتني الفكرة بالفعل في 2005 وهي السنة التي ظهرت فيها الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول في الدنمارك، فكتبت «حياة الرسول» باللغة الإنكليزية في محاولة أولا للتعريف بالإسلام في الغرب عن طريق الكتابة عن حياة الرسول بوصفها نموذج تطبيقي للإسلام، حيث كان كما قيل «قرآنا يمشي على الأرض»، وثانيا لأن اللغة الإنكليزية هي اللغة الأوربية المقروءة على نطاق واسع في الغرب.
وبعدما صدر الكتاب تبين وجود متلقي غربي مهم آخر هو المسلمون الناطقون بالإنكليزية والذين يقرأون بها، وكان تعليق إحدى هؤلاء على الكتاب أنه «يقرأ بمتعة كما لو كان رواية» وقال عنه أميركي مسيحي «إنه عبارة عن كتاب مفتوح لحياة الرسول»، ثم أضاف موضحا «أما حياة المسيح فلا توجد مثل هذه التفاصيل عنها». بعد ذلك جاءت فكرة نشر الكتاب أيضا باللغة الفرنسية للفرنسيين المسلمين وغير المسلمين وللمسلمين خريجي المدارس الفرنسية في البلاد العربية بما فيها المغرب، وأخيرا حسمت الأمر بعد أخذ ورد على نشره باللغة العربية أيضا.
- لعل «حياة الرسول» باللغة العربية تعود إلى تقديم صورة عن شخصية بلغت الكمال لجيل الشباب، كما حدث مع العقاد في سلسلة العبقريات.ليلى أبو زيد: «حياة الرسول» يقدم صورة مختلفة عن شخصية بلغت الكمال |
هذا هو الهدف بالفعل وقد جاءت النسخة العربية كتحصيل حاصل ولولا ذلك لما خطر لي أن أكتبها لأن سيرة الرسول متوفرة باللغة العربية بما فيه الكفاية ولأن العادة جرت بألا يكتب في هذا الموضوع بهذه اللغة إلا علماء الدين، وقد جاءت بمستويين من اللغة: العربية الحديثة في سردي والعربية العتيقة في النصوص الأصلية المقتبسة، وجاءت أكبر حجما لتعطش المسلمين لمعرفة تفاصيل حياة رسولهم كما جاءت بشكل مختلف لأنها موجهة إلى جمهور مختلف.
- هل من علاقة بين صدور السيرة باللغة العربية، وتساؤل لمحمد منذور لما يختم معظم الكتاب العرب عملهم الأدبي بالكتابة عن الرسول؟
الجواب على سؤال محمد منذور «ليكون ختامه مسكا»، وإن كنت لم أر معظم الكتاب العرب ولا حتى بعضهم يختمون أعمالهم الأدبية بالكتابة عن الرسول، ما رأيت بعضهم بمن فيهم كاتبات يختمونه إلا بالإباحية بدعوى الحداثة والتحرر بتشجيع مما يسمى بالمثقفين الليبراليين العرب، أما فيما يخص «حياة الرسول» فأرجو ألا تكون ختاما بالمطلق ولكن فاتحة بمشيئة الله لكتابة من نوع جديد.
- اعتُبرت روايتك «عام الفيل» أكمل رواية مغربية تكتبها امرأة، وقد احتفى بها النقد الأنجلوسكسوني أكثر من المغربي، كيف تفسرين ذلك؟
صدرت «عام الفيل» باللغة العربية عام 1983 فبدأ يصلني رأي القراء كما كنت أتوقع، واحتفى بها عدد من الأدباء وخاصة الشاعران المغربي أحمد عبد السلام البقالي والعراقي صلاح نيازي، ونفذت الطبعة الأولى في ظرف وجيز وظلت تحت الطبع حتى بلغت الآن طبعتها السادسة.
ودعني أقول إنني لم أكن أتوقع إلا رأي القراء لأنه لم يكن بالمغرب في ذلك الوقت ما يمكن أن نسميه نقدا بالمعنى العلمي للكلمة، بل رأي ما كان يعرف بمثقفي الأحزاب أو ما يسمى «النقد الآيديولوجي»، ولكن بمجرد أن ترجمت «عام الفيل» إلى الإنكليزية وأصدرها في آن واحد ناشران أميركيان هما مصلحة النشر في كل من جامعة تكساس والجامعة الأميركية في القاهرة بعد ست سنوات فقط من صدور النسخة العربية، بدأت تُدرّس في عدد من الجامعات الأميركية وبدأت تُكتب عنها دراسات لمنشورات أكاديمية في الولايات المتحدة وبريطانيا.
عند ذلك دخلت إلى الجامعة المغربية في نسختها الإنكليزية واكتشفها النقاد العرب لا بل والمغاربة عن طريق الشعب الإنكليزية في الجامعات فكتبت عنها لأول مرة باللغة العربية دراستان قيمتان بقلم الدكتور عبد العالي بوطيب من جامعة مكناس والدكتورة بثينة شعبان من جامعة دمشق.
وهذا ما يدفع إلى طرح السؤالين التاليين: لماذا انتبه إليها القراء في المغرب عند صدورها بالعربية ولم ينتبه إليها الأكاديميون؟ ولماذا انتبه إليها الأكاديميون الأجانب بمجرد صدور الترجمة الإنكليزية ولم ينتبه إليها الأكاديميون المغاربة والعرب إلا بعدما جاءت التزكية من الولايات المتحدة؟
ولم يكن تأثير الترجمة الإنكليزية مقصورا على المغرب والعالم العربي فحسب بل كان حافزا لترجمتها إلى الألمانية والإسبانية والهولندية والأردية (لغة أفغانستان) وحتى الفرنسية، ذلك أن الناشر الأوروبي يرصد ما يترجم في الولايات المتحدة من أدب عربي للسير على منواله ومن المفارقات أن يكون الأميركيون هم من يدل الفرنسيين أيضا على ما يجري في مستعمراتهم السابقة.
- وربما يعود احتفاء النقد الأنجلوسكسوني بالرواية إلى احتوائها عناصر رواية ما بعد الكولونيالية، ما رأيك بذلك؟
هذا صحيح، تدرّس «عام الفيل» في الولايات المتحدة في نطاق الأدب المغاربي والعربي والافريقي، وتعد «رواية ما بعد الكولونيالية» واحدة من النظريات التي طُبّقت عليها هناك إلى جانب نظريات أخرى مثل «الكتابة النسائية» وما أصبح يعرف بـ»Schema theory» التي تمت ترجمتها إلى العربية بـ»نظرية الخريطة الدلالية» والتي تقوم على أن النص مكون من اللغة وأن اللغة دلالات معرفية وثقافية مرتبط بعضها ببعض ويفسر بعضها بعضا.
وجاء تطبيق هذه النظرية على الرواية بعنوان «نظرية الخريطة الدلالية ولغة الخوف في عام الفيل» حيث بينت الدراسة كيف أن هذه اللغة محملة بدلالات ثقافية ومعرفية لا يمكن للقارئ الأجنبي أن يفهمها، وأورد مثالا من الرواية يتعلق بسؤال ضابط الشرطة الفرنسية لزوجة مقاوم مغربي جاء للقبض عليه ولم يجده بالمنزل، حيث قال لزوجته وهو يزج بها في سيارة الشرطة «أين هو؟» فأجابت «لا أعرف» ورد بقوله «في المعارف تعرفين» فقالت هي «عند ابن عمه في الكاريير سانترال».
ويقول الباحثون إن القارئ الأجنبي لا يفهم لماذا أرعبت عبارة «في المعارف تعرفين» المرأة إلى هذا الحد ودفعت بها إلى الإقرار بالمكان الذي يختفي فيه زوجها، ويؤكدون أن هذه العبارة تحدث نفس الخوف عند القارئ المغربي ولكنها لا تفعل شيئا في القارئ الأجنبي لأنه لا يعرف أنها تحيل على أكبر مركز للشرطة الاستعمارية الفرنسية في الدار البيضاء الذي كانت تمارس فيه أفظع أنواع التعذيب على المقاومين المغاربة لانتزاع الاعترافات منهم.
- ضمنت سيرتك الذاتية كثيرا من الصدق والصراحة والجرأة وخاصة خلال انتقاد «اليسار المغربي» ممثلا في حزب انتمى إليه والدك، وكان حوارك معه قويا ذكرني ببعض حوار ريشارد رايت مع أبيه، ما السبب؟
ذلك لأنها كتبت أصلا باللغة الإنكليزية لقارئ أجنبي فلم تتدخل فيها الرقابة الذاتية، ولعل مقدار الصدق والصراحة فيها هو ما أعطاها قيمتها وجعلها إلى جانب طابعها الأدبي وثيقة تاريخية واجتماعية وأقنعني في نهاية المطاف بنشرها بالعربية أيضا ولعله ما حمل وزارة التعليم على أن تعتمدها وفق البرنامج الجديد للغة العربية في التعليم الإعدادي والثانوي في المغرب منذ 2005.
- حاولت عبر كتابيك في الرحلة «بضع سنبلات خضر» عن لندن و»أمريكا، الوجه الآخر» تجريد الغرب من بعض السحر والتقديس، ما الذي دفعك لذلك؟
هذا صحيح وخاصة في «أمريكا، الوجه الآخر» وكما ترى العنوان لا يهتم بوجه أمريكا البراق الذي كان عندما صدر الكتاب في الثمانينيات يبهر شباب البلاد النامية، عندما كان العالم لم يسمع بعد بأفغانستان والعراق والفلوجة والعامرية وأبو غريب وغوانتانامو، ولكنه يركز على وجه أميركا الآخر، وجه النظام وما يقوم عليه من رأسمالية متوحشة وبراغماتية عاتية تجردانه من كل ملمح أخلاقي وإنساني.
وقد كان هذا بالضبط هو ما لاحظه الناس فيه حيث قيل عندما صدرت الطبعة الأولى في 1986 إنه يعكس عدم انبهاري بأميركا، وعندما صدرت الطبعة الثانية 1991 قيل إنه أشار للغزو الأميركي لأفغانستان والعراق.
- برأيك، ما سبب «الهيام المفاجئ» باللغة العامية في هذا المغرب، والدعوة إلى اعتمادها في قطاع التعليم بدل اللغة الفصحى تحت مبررات متنوعة (انتشار الأمية، صعوبة علم الفصحى…)؟ وهل هو ضرورة اجتماعية أم أنه التفاف فرنسا وأتباعها للمحافظة على قوة ضاربة للاستمرار في تركيع المجتمع المغربي عبر اللغة والثقافة؟
من كانوا يحاربون اللغة العربية باللغة الفرنسية لفرض هيمنة فرنسا الثقافية على المغرب انهزموا الآن ووضعوا السلاح، فرنسا وأتباعها و لغتها الآن في المغرب شيء من الماضي، ولم يعد هؤلاء من يحارب اللغة العربية في المغرب لأن محاربتها الآن تتم بالعامية وليس بالفرنسية والمستهدف في المغرب الآن هو الإسلام وليس الثقافة.
لذلك نجد بعض «الحداثيين» يرون أن الحداثة لا تتم إلا بقطع العلاقة مع التراث والبدء من الصفر بإبعاد اللغة العربية من المدارس وإحلال العامية مكانها، وإن كانوا فريقين اثنين يتفقان على الاستراتيجية ويختلفان على التكتيك كما تبين من برنامج «مباشرة معكم» الذي أذيع على القناة المغربية الثانية مؤخرا بين عبدالله العروي ونورالدين عيوش.
فالأول يريد إبعاد الفصحى من المدارس دفعة واحدة وأن يكون التعليم بالعامية والآخر يريد الإبقاء على الفصحى في المدارس «مع تغيير قواعدها بإلغاء المثنى وجمع المؤنث السالم وجزم أواخر الكلمات»، بحيث تصبح الفصحى عامية في نهاية المطاف، وكلام الرجلين واضح، فهما لا يختلفان على الضرب ولكن على من أين يأتي هل يأتي «من تحت» كما يرى عيوش أو «من فوق» كما يرى العروي.
وفي الوقت الذي يتعاون فيه العلمانيون والتلموديون في إسرائيل على الربط مع التراث بإخراج لغة نصف ميتة من تحت الأنقاض وإجلاء ما ران عليها من غبار آلاف السنين، نجد العلمانيين عندنا يتعاونون على ضرب اللغة العربية من فوقها ومن تحتها، وهي اللغة الحية التي قامت بها إحدى أعظم الحضارات في تاريخ الإنسانية.
وفي الوقت الذي نجد فيه مؤسسات الإعلان والإعلام في الدول المتقدمة ترتفع بالناس بتقديم أحسن ما عندهم بأرقى مستويات لغاتهم نجدها عندنا تنزل إلى رطانة الشوارع وترتد بهم إلى الأمية التي تعد العامية بيئتها الطبيعية ويعد تحويل هذه الأخيرة إلى حروف على ورق إخراجا لها من بيئتها كإخراج السمكة من الماء، حكما عليها بالموت.
- ترجمتك لسيرة «مالكوم إكس» تندرج ضمن تقديم نموذج لشخصية هامشية منحرفة دفع بها دخولها الإسلام إلى معانقة مرتبة الشخصية العالمية، فما الصعوبات التي طرحتها عليك ترجمة العبارات الدارجة والحوارات باللغة العامية؟
كانت أكبر صعوبة جابهتني هي ترجمة المصطلحات والتعابير والأمثال الواردة في الكتاب بالعامية الزنجية التي كانت كأنها «سانسكريتية» ليس لكونها عامية فحسب ولكن لأنها أيضا محملة بالإيحاءات الثقافية كما تقول نظرية الخريطة الدلالية المذكورة آنفا.
وإذا كان لعموم القراء كما تقول هذه النظرية أن يكتفوا بفهم ما تيسر لهم من النص فإن المترجم غير مسموح له بذلك، فالمترجم مطالب بفهم النص بعمق حتى يتسنى له نقله بأمانة. ولما كنت قد بدأت في ترجمة الكتاب في الولايات المتحدة، كنت أستعين بأميركيين سود لحل المشكلة.
كانت الصعوبة جمة ولولا أن الكتاب فريد من نوعه ويتناول موضوع الساعة وكل ساعة (الإسلام) وكيف أن زنجيا استطاع به أن يتحرر ويحرر سودا أميركيين من آثار العبودية والعنصرية ويرتفع بنفسه وبهم إلى الكرامة الإنسانية ويصبح كما تقول أنت شخصية عالمية، لولا ذلك لما منحت لترجمة هذا الكتاب أكثر من عام من العمل اليومي الكامل.
عبد العزيز جدير
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال