الربيع العربي إذا حطم احتكار السلطة للحياة ونزع عنها صفة الملكية والتقوقع وأنتج سلطا تفكر بالمصالح الأساسية للبشر، فإنه سيعود حتما إلى شكل ما من تعين العرب.
أطل علينا- في الآونة الأخيرة، وبارتباط بالثورات العربية- قيلٌ أيديولوجي ينال من الانتماء إلى العرب رغبة في تأكيد الهويات المحلية، وثأراً من الأيديولوجيات القومية العربية التي ارتكبت باسمها أشد الحماقات التاريخية ضرراً بحق الشعوب وقضاياهم، من قضية فلسطين إلى قضية المصالح المشتركة، وانتهاء بمسألة العلاقات المعشرية والثقافية. فضلاً عن أن الدكتاتوريات المقيتة والمدمرة للحياة السياسية والاقتصادية والأخلاقية حملتْ الكثيرين على الكفر بالانتماء العربي انطلاقا من ترابط العلاقة بين النظم المستبدة والأيديولوجيا القومية.
والحق أنه من الوعي الزائف والخاطئ أن نساوي بين العرب والأيديولوجيا القومية. لأن مساواة كهذه توحد بين ظاهرة موضوعية هي العرب، وبين ظاهرة أيديولوجية هي الأيديولوجيا القومية. وهذا التوحيد الزائف يخلق لدى بعض الأقوام غير العربية نزعة تعصبية ضد العرب، بل ويبرر ظهور الهويات الطائفية المتعصبة والتأخرية، ويساعد الوعي الديني المتطرف على التوسع والانتشار.
دعوني أعود إلى الواضح والمتميز عن طريق طرح السؤال الأساس حول هذه النقطة: من هم العرب؟ العرب هم واقعة بشرية إثنية- ثقافية. هناك قوم على هذه الأرض يسمون بالعرب. تماما كما هناك أقوام تسمى: الكرد والأرمن والألمان… الخ. فضلاً عن ذلك هناك وعي ذاتي بالانتماء إلى هذه الإثنية- العرب.
العرب- إذن إثنية ووعياً- واقعة موضوعية وليسوا واقعة أيديولوجية. بل ما كان يمكن للأيديولوجيا القومية أن تظهر إلى الوجود لولا وجود العرب بوصفهم واقعة موضوعية. والأيديولوجيا القومية ثمرة رغبة في شكل وجود العرب المأمول وليس في خلق هذا الوجود.
العرب والحال هذه هوية دون النظر إلى درجة فاعليتها في الحياة، هوية موضوعية لا هوية “رغبوية” أو فكرية أو أيديولوجية، ولهذا فهي من نمط الهوية الثابتة. بل إن الاحتجاج على هذه الهوية من قبل المنتمين إليها احتجاجا على فاعليتها، تأكيد لها. كصرخة الفلاّحة الحُورانية ذات العصبة والشبنر والثوب الأسود الطويل وهي تتألم من بطش النظام وبراميله المتفجرة، إن صرخة هذه الفلاحة المستغيثة والتي لم تقرأ ساطع الحصري وقسطنطين زريق وميشيل عفلق: “وين العرب؟” تدل على عمق الهوية العربية وموضوعيتها. وقس على ذلك من الأمثلة الكثيرة المشابهة، كعتب الفلسطيني من العرب الدائم، وعتب الفقراء العرب على الأغنياء العرب… الخ.
تكمن مشكلة العرب في أنهم قوم متعددو الدول. وهذا يخلق وعياً ذاتياً ملتبساً، ولكن لا ينفي الوعي الذاتي الأقوامي.
ولهذا فإن غياب الدولة الأمة، الهدف المؤسس للأيديولوجيا القومية لا يعني غياب العرب. بل يعني غياب العرب الدولة- الأمة ويبقي على الوعي بهذا الغياب بوصفه سلباً للإرادة.
وبالتالي يجب أن نميز بين الأيديولوجيا القومية ومنطلقاتها النظرية، والتي بدأت من النصف الثاني من القرن التاسع عشر في بلاد الشام والعراق من جهة، والحس القومي العفوي الذي راح ينمو بوصفه نمطاً من الثقافة المستندة إلى الشعور بالانتماء إلى العرب.
العرب مجموعة من الدول الجديدة ذات السيادة بالمعنى الحقوقي الدولي للسيادة، دول ذات حدود جغرافية وأنظمة حكم، أي أن في كل دولة ما يلزم لقيام الدولة.
هذه الواقعة الموضوعية هي أحد أهم العوامل النابذة لإمكانية قيام الدولة- الأمة بأية صورة من الصور. غير أن هذا العامل النابذ غير قادر على إلغاء واقعة العرب كإثنية واعية بذاتها أصلاً وفصلاً ولغة وتاريخاً وسياسية وثقافة.
ولهذا فإن البحث عن مؤسسات تعبّر عن العرب مستمر ولم يتوقف منذ قيام الجامعة العربية- بمعزل عن قيمتها العملية- مروراً بفكرة إتحاد المغرب العربي وقيام مجلس التعاون العربي ومجلس التعاون الخليجي والنقابات العربية المشتركة الخ، فضلاً عن وجود شعور مشترك بالمشكلات لدى أبناء الدول العربية.
بل وقد دلل الربيع العربي على أمر في غاية الوضوح ألا وهو أن العوامل النابذة- الدولة القطرية- لم تستطع أن تلغي العوامل النابذة بين العرب.
غير أن العامل الأساسي، وإن كان قادراً على خلق الإصطفافات العربية- العربية المعبرة عن الهموم المشتركة حتى لدى الأنظمة ليس هو العامل الرئيس في عملية النبذ هذه. بل العامل الرئيسي هو العامل الثقافي بمعنييه: الأنثروبولوجي والإبداعي.
وإذا كان صحيحاً أن التحديث والحداثة قد زعزعا من وحدة المشترك الثقافي الأنثروبولوجي غير أنه لم يلغ السمات المشتركة لهذه الثقافة، بل وأفضى إلى تشابه في عملية التحديث والحداثة والتغريب، فالحدود السياسية لم تستطع أن تلغي المتحد الثقافي لفلسطين والأردن وسوريا ولبنان. ولا المتحد الثقافي بين بلاد الشام والعراق فالثقافة الموضوعية في هذه البلدان: عادات الأفراح والأتراح وطقوس الولائم والتحية والزواج والقرابة والقيم المعشرية رغم ما أصابها من تزعزع مازالت مشتركة.
أما إذا ما تحدثنا عن الثقافة المبدعة فإننا نحصل على أقوى برهان على العامل الجابذ للهوية العربية والتعبير الأصدق على المتحد الثقافي.
فالشعر والرواية والقصة والمسرح والفكر والفلسفة والفن التشكيلي والسينما والدراما، وهذا المكتوب كله باللغة العربية والمسموع بها جعل من النخبة العربية مصدر وعي بالانتماء العربي. اللغة هنا ليست مجرد أداة استعمال كما الإنكليزية بالنسبة للأفريقي أو الهندي، بل هي هوية تفكير وإبداع.
وكل الثقافات المبدعة مهمومة أصلاً بما يماثل الهم العربي وتعبر عن حياة الناس بمعزل عن مستويات التعبير وموضوعاته. ولا يقلل أحد من دور النخبة ووظيفتها في وعي الهوية المتجددة عبر الثقافة المبدعة.
ولست أدري من هو القائل من غير العرب الذي صرّح بأنه حين يحضر مؤتمراً رسمياً سياسياً يشعر أنه أمام أمم ودول متعددة، أما حين يحضر مؤتمراً ثقافياً يشعر أنه أمام دولة واحدة وأمة واحدة. وإذا كان هناك من يعتقد أن العولمة قد أتت على فكرة الأمة- الدولة ووسعت من وحدة العالم، وبالتالي عززت من انتهاء الثقافات القومية أو المحلية، فإن العولمة في حال العرب تعزز وجودهم الذاتي. فإذا كانت العولمة توحد العالم وتجعله قرية كونية، فأولى بها أن توحد منطقة من العالم تحول السياسة دون توحيدها. أنا لا أدري ما هو المستقبل الذي سيكون عليه العرب، لكن الربيع العربي إذا ما حطم احتكار السلطة للحياة ونزع عنها صفة الملكية والتقوقع وأنتج سلطاً تفكر بالمصالح الأساسية للبشر، فإنه سيعود حتماً إلى شكل ما من تعيّن العرب، إثنياً أو ثقافياً في صورة سياسية ما.
أحمد برقاوي
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال